فصل 7000 موظف.. سياسة "عدم التسامح" تلاحق الإهمال داخل أروقة الصحة البريطانية
فصل 7000 موظف.. سياسة "عدم التسامح" تلاحق الإهمال داخل أروقة الصحة البريطانية
شهدت هيئة الصحة الوطنية البريطانية خلال عامي 2024 و2025 ارتفاعا غير مسبوق في حالات فصل الموظفين، في تطور يعكس تحولات عميقة في سياسات الإدارة والمساءلة داخل أحد أكبر أنظمة الرعاية الصحية العامة في العالم، ووفقا لبيانات حديثة، جرى فصل نحو 7000 موظف من مختلف المستويات الوظيفية، مقارنة بنحو 4000 موظف فقط قبل عامين، وهو أعلى رقم يسجل منذ بدء جمع هذه الإحصاءات بشكل منتظم عام 2011.
وذكرت صحيفة "التليغراف" الخميس أن هذا الارتفاع الحاد لم يمر دون إثارة جدل واسع داخل الأوساط الطبية والنقابية والسياسية، خاصة في ظل التحديات المتراكمة التي يواجهها النظام الصحي، من نقص الكوادر وضغوط العمل، إلى تزايد الطلب على الخدمات الصحية وتأثيرات الأزمات الاقتصادية.
أسباب الفصل بين الأداء والسلوك
تشير المعطيات التي نشرتها التليغراف إلى أن أكثر من نصف حالات الفصل المسجلة تعود إلى أسباب تتعلق بالإهمال وعدم القدرة على أداء العمل بالكفاءة المطلوبة، وتشمل هذه الفئة الموظفين الذين أخفقوا في تلبية معايير الأداء المهني لفترات طويلة، رغم محاولات التدخل الإداري والتدريب في بعض الحالات، وإلى جانب ذلك، سُجلت حالات فصل بسبب سوء السلوك المهني، والتقاعس عن أداء الواجبات، إضافة إلى قرارات تسريح وظيفي مرتبطة بإعادة الهيكلة.
ويعكس هذا التوزيع تغيرا في أولويات الإدارة داخل NHS، حيث لم تعد المخالفات الجسيمة وحدها سببا للفصل، بل أصبح ضعف الأداء المستمر مبررا رئيسيا لإنهاء الخدمة.
تصريحات حكومية حازمة
في خضم هذا الجدل، أطلق وزير الصحة الحالي ويس ستريتينغ تصريحات حازمة، أكد فيها أن أي مدير داخل NHS يفشل في تحسين أداء المؤسسة التي يقودها سيكون عرضة للفصل، وشدد على أن المرحلة الحالية تقوم على مبدأ عدم التسامح مطلقا مع الأداء الضعيف، سواء على مستوى الإدارة أو التنفيذ.
هذه التصريحات عكست توجها سياسيا واضحا نحو تشديد المساءلة داخل النظام الصحي البريطاني، في محاولة لاستعادة ثقة الجمهور وتحسين جودة الخدمات، لكنها في الوقت ذاته أثارت مخاوف من أن تتحول سياسات الفصل إلى أداة ضغط إضافية على العاملين في قطاع يعاني أصلا الإرهاق ونقص الموارد.
رؤية خبراء السياسات الصحية
يرى غاريث ليون، رئيس قسم الصحة والرعاية الاجتماعية في مركز سياسة التغيير أن فصل الموظفين غير القادرين على أداء مهامهم يعد خطوة ضرورية لتحسين جودة الرعاية الصحية، ويؤكد أن رفع مستوى أداء NHS لا يمكن أن يتحقق دون إدارة صارمة للأداء، تضع مصلحة المرضى في المقام الأول.
ويضيف ليون أن التساهل مع الأداء الضعيف لفترات طويلة لا يؤدي فقط إلى تراجع جودة الخدمات، بل يخلق ثقافة مؤسسية سلبية يشعر فيها الموظفون المجتهدون بعدم العدالة، في حين يدفع المرضى الثمن في نهاية المطاف.
أرقام تعكس تحولاً تدريجياً
تظهر البيانات أن نسبة الموظفين الذين غادروا وظائفهم بسبب الفصل بلغت 1.8 بالمائة، مقارنة بنسبة 1.2 بالمائة قبل 10 سنوات، وعلى الرغم من أن هذه النسبة لا تزال أقل من تلك المسجلة في القطاع الخاص، والتي تراوح بين 2 و3 بالمائة، فإن وتيرة الارتفاع داخل NHS تثير تساؤلات حول طبيعة التحولات الجارية.
ويشير مراقبون إلى أن هذا الارتفاع قد يعكس بداية تقارب تدريجي بين ثقافة العمل في القطاع العام ونظيرتها في القطاع الخاص، حيث تسود معايير أكثر صرامة للأداء والمساءلة.
كلفة الفصل والبدائل الممكنة
من جانبه، لفت جون فريغارد من مؤسسة Skills for Health إلى أن ارتفاع حالات الفصل غالبا ما يكون نتيجة ضعف الأداء على مدى فترات طويلة، لم تتم معالجته في وقت مبكر، وشدد على أهمية تقديم الدعم المبكر والتدريب المستمر للموظفين قبل الوصول إلى مرحلة الفصل، محذرا من أن تجاهل المشكلات في بدايتها يؤدي إلى نتائج أكثر كلفة وتعقيدا.
وأوضح أن تكلفة استبدال كل موظف مفصول تقدر بنحو 6500 جنيه استرليني، تشمل تكاليف التوظيف والتدريب وفترات التهيئة، وهو ما يشكل عبئا إضافيا على ميزانيات NHS المثقلة أصلا.
ثقافة الشكاوى وإدارة الفشل
وسلط ستيف باركلي، وزير الصحة السابق، الضوء على ما وصفه بثقافة متجذرة داخل NHS، تتعامل مع الشكاوى بوصفها مشكلة ينبغي احتواؤها، لا فرصة لتحسين الأداء، واعتبر أن انتقال بعض المديرين أو الفنيين الذين يفشلون في مؤسسة إلى أخرى دون محاسبة حقيقية يشكل خطرا مباشرا على سلامة المرضى.
وأشار باركلي إلى أن غياب آليات صارمة للمساءلة في السابق أسهم في تراكم الإخفاقات، داعيا إلى إصلاحات جذرية تضمن عدم تكرار هذه الظاهرة.
موقف وزارة الصحة
في رد رسمي، أكد متحدث باسم وزارة الصحة في بريطانيا أن الهدف من تشديد سياسات الأداء ليس العقاب بحد ذاته، بل ضمان تقديم رعاية صحية عالية الجودة، وشدد على أن الإدارة المبكرة للأداء، وتوفير التدريب والدعم المناسبين للموظفين، يمثلان حجر الزاوية في أي استراتيجية ناجحة لتحسين النظام الصحي على المدى الطويل.
وأوضح أن الفصل يجب أن يكون الخيار الأخير بعد استنفاد جميع سبل الدعم والتطوير، مؤكدا أن الوزارة تعمل على تحقيق توازن دقيق بين المساءلة والإنصاف.
تأثيرات على بيئة العمل
يثير هذا التوجه مخاوف لدى بعض النقابات والعاملين من أن تؤدي سياسات الفصل الصارمة إلى خلق مناخ من القلق وعدم الاستقرار الوظيفي، ما قد يدفع بعض الكفاءات إلى مغادرة NHS طوعا، في المقابل، يرى آخرون أن الوضوح في المعايير والمساءلة قد يسهم في تحسين بيئة العمل على المدى البعيد، من خلال تعزيز ثقافة الاحتراف والمسؤولية.
تعد خدمة الصحة الوطنية البريطانية من أكبر أرباب العمل في أوروبا، حيث تضم أكثر من 1.3 مليون موظف يعملون في ظروف معقدة تتسم بضغط العمل ونقص الموارد وتزايد الطلب على الخدمات الصحية، خاصة مع شيخوخة السكان، وعلى مدى سنوات، واجه NHS انتقادات متكررة تتعلق بطول فترات الانتظار، وتفاوت جودة الخدمات، وضعف المساءلة الإدارية في بعض المؤسسات، ومع تصاعد التحديات المالية والبشرية، تتجه الحكومة البريطانية إلى تبني سياسات أكثر صرامة في إدارة الأداء، في محاولة لتحقيق توازن بين حماية حقوق العاملين وضمان سلامة المرضى وجودة الرعاية الصحية، وهي معادلة لا تزال محل نقاش واسع داخل المجتمع البريطاني.











